فصل: ومن باب دية الذمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب دية الجنين:

قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وهارون بن عباد الأزدي المعنى قالا: حَدَّثنا وكيع عن هشام عن عروة عن المسور بن مخرمة «أن عمر رضي الله عنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيها بغرة عبد أو أمة فقال ائتني بمن يشهد معك، قال فأتاه محمد بن مسلمة فشهد له».
قال الشيخ: إملاص المرأة إسقاطها الولد، وأصل الإملاص الإزلاق وكل شيء يزلق من اليد ولا يثبت فيها فهو مَلَص. ومنه قول الشاعر:
فرَّ وأعطاني رشًا مِلَّصًا

والغرة النسمة من الرقيق ذكرًا كان أو أنثى، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء، وإنما سمي غرة لبياضه لا يقبل في الدية عبد أسود أو جارية سوداء.
حدثني بذلك أبو محمد الكُرابي حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا بن يحيى المنقري عن الأصمعي، عَن أبي عمرو ويرى أن عمر إنما استشهد مع المغيرة بغيره استثباتًا في القضية واستبراء للشبهة، وذلك أن الديات إنما جاء فيها الإبل والذهب والورق.
وقد ذكر أيضًا في بعض الروايات البقر والغنم والحلل ولم يأت في شيء منها في الرقيق فاستنكر عمر رضي الله عنه ذلك في بدأة الرأي فاستزاده في البيان حتى جاء الثبت والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار سمع طاوسًا عن ابن عباس عن عمر «أنه سأل عن قضية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل».
قال الشيخ: المسطح عود من عيدان الخباء، وفيه دليل على أن القتل إذا وقع بما يقتل مثله غالبًا من خشب أو حجر أو نحوهما ففيه القصاص كالحديث إلاّ أن قوله: «وأن تقتل» لم يذكر في غير هذه الرواية.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حَدَّثنا مجالد قال: حدثني الشعبي عن جابر بن عبد الله «أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد قال فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها، قال فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ميراثها لزوجها وولدها».
قال الشيخ: دلالة هذا الحديث أن القتل كان يشبه الخطأ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديتها على عاقلة القاتلة.
وفيه بيان أن الولد ليس من العاقلة وأن العاقلة لا ترث إلاّ ما فضل عن أصحاب السهام.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بيان وابن السرح قالا: حَدَّثنا ابن وهب خبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عَن أبي هريرة قال:
«اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية جنينها غرة عبد أو أمة وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حَمَل بن النابغة الهذلي كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع»
.
قال الشيخ: قوله: «وورثها ولدها ومن معهم» يريد الدية.
وفيه بيان أن الدية موروثة كسائر مالها الذي كانت تملكه أيام حياتها.
وفيه دليل على أن الجنين يورث وتكون ديتها على سهام الميراث وذلك أن كل نفس تضمن بالدية فإنه يورث كما لو خرج حيًا ثم مات.
وقوله: «ولا استهل»، الاستهلال رفع الصوت، يريد أنه تعلم حياته بصوت نطقٍ أو بكاء أو نحو ذلك.
وقوله: «ذلك يطل»، يروى هذا الحرف على وجهين: أحدهما بطل على معنى الفعل الماضي من البطلان والآخر يطل على مذهب الفعل الغائب من قولهم طُل دمه إذا أهدر يُطل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «هذا من إخوان الكهان» من أجل سجعه الذي سجع فإنه لم يعبه بمجرد السجع دون ما تضمنه سجعه من الباطل.
وإنما ضرب المثل بالكهان لأنهم كانوا يروجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين فيستميلون القلوب ويستصغون الأسماع إليها. فأما إذا وضع السجع في موضع حق فإنه ليس بمكروه وقد تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسجع في مواضع من كلامه كقوله للأنصار: «إما أنكم تقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع».
وروي عنه أنه قال: «خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة».
وقال أبا عمير ما فعل النغير.
وقال في دعائه «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقول لا يسمع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع. أعوذ بك من هؤلاء الأربع». ومثل ذلك في الكلام كثير.
وفي الخبر دليل على أن الدية في شبه الخطأ على العاقلة.
قلت: والغرة إنما تجب في الجنين إذا سقط ميتًا فإن سقط حيًا ثم مات ففيه الدية كاملة.
وفيه بيان أن الأجنة وإن كثرت ففي كل واحد منها غرة.
واختلفوا في سن الغرة التي يجب قبولها ومبلغ قيمتها، فقال أبو حنيفة وأصحابه عبد أو أمة تعدل خمسمائة درهم، وقال مالك ستمائة درهم، وقصد كل واحد من الفريقين نصف عشر الدية، لأن الدية عند العراقي عشرة آلاف درهم، وعند المدني اثنا عشر ألفًا.
وقيل خمسون دينارًا وهي أيضًا نصف العشر من دية الحر لأنهم لم يختلفوا أن الدية من الذهب ألف دينار.
وقد استدل بعض الفقهاء من قوله: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة» على أن دية الأجنة سواء ذكرانًا كانت أو إناثا لأنه أرسل الكلام ولم يقيده بصفة.
قال ولو كان يختلف الأمر في ذلك بالأنوثة والذكورة لبينه كما بين الدية في الذكر والأنثى من الأحرار البالغين.
قلت: وهذه القضية صادقة في الحكم، إلاّ أن الاستدلال فيه بهذا اللفظ من هذا الحديث لا يصح لأنه حكاية فعل ولا عموم لحكاية الفعل. وإنما يصح هذا الاستدلال من رواية من روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة» من غير تفصيل والله أعلم.
ومذهب الشافعي في دية الجنين قريب من مذاهب من تقدم ذكرهم، إلاّ أنه قومها من الإبل، فقال خمس من الإبل خمساها وهو بعيران قيمة خَلَفتين وثلاثة أخماسها قيمة ثلاث جذاع وحقاق، وذلك لأن دية شبه العمد عنده مغلظة منها أربعون خلفة وثلاثون حقة وثلاثون جذعة، فإن أعطى الغرة دون القيمة لم يقبل حتى يكون ابن سبع سنين أو ثمان.
ويقبل عند أبي حنيفة الطفل وما دون السبع كالرقبة المستحقة في الكفارات.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا عيسى عن محمد، يَعني ابن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل».
قال أبو داود روى هذا الحديث حماد وخالد الواسطي عن محمد، يَعني ابن عمرو ولم يذكرا فيه بفرس أو بغل.
قال الشيخ: يقال إن عيسى بن يونس قد وهم فيه وهو يغلط أحيانًا فيما يرويه إلاّ أنه قد روى عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير أنهم قالوا الغرة عبد أو أمة أو فرس. ويشبه أن يكون الأصل عندهم فيما ذهبوا إليه حديث أبي هريرة هذا والله أعلم.
وأما البغل فأمره أعجب ويحتمل أن تكون هذه الزيادة إنما جاءت من قبل بعض الرواة على سبيل القيمة إذا عدمت الغرة من الرقاب والله أعلم.

.ومن باب دية المكاتب:

قال أبو داود: حدثنا مسدد عن يحيى بن سعيد وإسماعيل عن هشام قال: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا الحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية المكاتب يقتل يُوَدي ما أدَّى من مكاتبته دية الحر وما بقي دية المملوك».
قال الشيخ: أجمع عامة الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في جنايته والجناية عليه.
ولم يذهب إلى هذا الحديث من العلماء فيما بلغنا إلاّ إبراهيم النخعي.
وقد روي في ذلك أيضًا شيء عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وإذا صح الحديث وجب القول به إذا لم يكن منسوخًا أو معارضًا بما هو أولى منه والله أعلم.

.ومن باب دية الذمي:

قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي حدثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دية المعاهد نصف دية الحر».
قال الشيخ: ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير، وهو قول مالك وابن شبرمة وأحمد بن حنبل غير أن أحمد قال إذا كان القتل خطأ. فإن كان عمدًا لم يقد به ويضاعف عليه باثني عشر ألفًا.
وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري ديته دية المسلم؛ وهو قول الشعبي والنخعي ومجاهد، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما.
وقال الشافعي وإسحاق بن راهويه ديته الثلث من دية المسلم وهو قول ابن المسيب والحسن وعكرمة.
وروي ذلك أيضًا عن عمر رضي الله عنه خلاف الرواية الأولى وكذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قلت: وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى ولا بأس بإسناده، وقد قال به أحمد ويعضده حديث آخر وقد رويناه فيما تقدم من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: «كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف».

.ومن باب الرجل يقاتل الرجل فيدفع عن نفسه:

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه، قال: «قاتل أجير لي رجلًا فعض يده فانتزعها فندرت ثنيته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدرها وقال أتريد أن يضع يده في فيك تقضمها كالفحل».
قال الشيخ: فيه بيان أن دفع الرجل عن نفسه مباح وأن ذلك إذا أتى على نفس العادي عليه كان دمه هدرًا إذا لم يكن له سبيل إلى الخلاص منه إلاّ بقتله.
واستدل به الشافعي في صول الفحل قال إذا دفعه فأتى عليه لم تلزمه قيمته.

.ومن باب فيمن تطبب ولا يعلم منه طب:

قال أبو داود: حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي أن الوليد أخبرهم حدثني ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تطبب ولم يعلم منه طِب فهو ضامن».
قال الشيخ: لا أعلم خلافًا في المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنًا والمتعاطي علمًا أو عملًا لا يعرفه متعدي، فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض، وجناية الطبيب في قول عامة الفقهاء على عاقلته.

.ومن باب ما يكون جبارًا لا يضمن صاحبه:

قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن يزيد حدثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرجْل جُبار».
قال الشيخ: معنى الجبار الهدر، وقد تكلم الناس في هذا الحديث وقيل إنه غير محفوظ وسفيان بن حسين معروف بسوء الحفظ. قالوا وإنما هو العجماء جرحها جبار ولو صح الحديث لكان القول به واجبًا. وقد قال به أبو حنيفة وأصحابه.
وذهبوا إلى أن الراكب إذا رمحت دابته إنسانًا برجلها فهو هدر فإن نفحته بيدها فهو ضامن. قالوا وذلك أن الراكب يملك تصريفها من قدامها ولا يملك منها فيما وراءها.
وقال الشافعي اليد والرجل سواء لا فرق بينهما وهو ضامن والملكة منه قائمة في الوجهين إن كان فارسًا.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة سمعا أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العجماء جرحها جُبار، والمعدِن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس».
قوله: «العجماء جرحها جبار» العجماء البهيمة وسميت عجماء لعجمتها وكل من لم يقدر على الكلام فهو أعجم.
ومعنى الجبار الهدر، وإنما يكون جرحها هدْر إذا كانت منفلتة غائرة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق.
أما البئر فهو أن يحفر بئرًا في ملك نفسه فيتردى فيها إنسان فإنه هدر لا ضمان عليه فيه.
وقد يتأول أيضًا على البئر أن تكون بالبوادي يحفرها الإنسان فيحييها بالحفر والإنباط فيتردى فيها إنسان فيكون هدرًا.
والمعدن ما يستخرجه الإنسان من معادن الذهب والفضة ونحوها، فيستأجر قومًا يعملون فيها فربما انهارت على بعضهم يقول فدماؤهم هدر لأنهم أعانوا على أنفسهم فزال العتب عمن استأجرهم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل حدثنا عبد الرزاق قال وأنبأنا جعفر بن مسافر حدثنا يزيد بن المبارك حدثنا عبد الملك الصنعاني كلاهما عن معمر عن همام بن منبه، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النار جبار».
قال الشيخ: لم أزل أسمع أصحاب الحديث يقولون غلط فيه عبد الرزاق إنما هو البئر جبار حتى وجدته لأبي داود عن عبد الملك الصنعاني عن معمر، فدل أن الحديث لم ينفرد به عبد الرزاق، ومن قال هو تصحيف البئر احتج في ذلك بأن أهل اليمن يسمون النار يكسرون النون منها فسمع بعضهم على الإمالة فكتبه بالياء ثم نقله الرواة مصحفًا.
قلت: إن صح الحديث على ما روي فإنه متأول على النار يوقدها الرجل في ملكه لأرب له فيها فتطير بها الريح فتشعلها في بناء أو متاع لغيره من حيث لا يملك ردها فيكون هدرًا غير مضمون عليه والله أعلم.